تعيش ولاية تطاوين و معتمدياتها في شهر مارس من كل عام، على إيقاع النجع والشعر الشعبي والأغنية البدوية والسهرات الفنية، وذلك ضمن فعاليات المهرجان الدولي للقصور الصحراوية بتطاوين الذي يقع افتتاحه بساحة المدينة وسط حضور جماهيريّ غفير ضمن كرنفال افتتاحي يشمل عروضا في الفروسية والملابس التقليدية والأنغام البدوية الصحراوية تأمنها فرق من الولاية وبعض الجهات التابعة لها، علاوة على عروض أخرى من دول شقيقة و صديقة خصوصا ليبيا ومصر وفلسطين.
وبين الأصالة والمعاصرة يقدّم المهرجان عرضا للسيارات الكلاسيكية القديمة، علاوة على الدمى العملاقة وراكبي العصي، قبل أن يقع الإعلان عن الافتتاح الرسمي للمهرجان.
وبعد العروض الفولكلورية والكرنفالية الافتتاحية تتواصل على امتداد الأيام السهرات الفنية الكبری بدور الثقافة بالولاية مع فنانين من الجهة و من خارجها الذين يقدّمون عروضا غنائية مستلهمة من التراث التطاويني، و عروض ضخمة بعدة معتمديات يحييها فنانون من الجهة و من خارجها وسط تفاعل الجماهير لأغاني من التراث الجنوبي والليبي أغنيات تلهب حناجر الحضور غناء ورقصا.
وفي اليوم الثالث من السهرات الكبرى، ووسط حشد جماهيري غفير، تنطلق سهرة “الموقف” في تنشيط لمقدّم البرامج التلفزيونية والإذاعية حاتم بن عمارة، حيث تقدّم الفرق الفولكلورية بعضا من اللوحات التراثية مع مرور للجحفة والرقص بالعصي في مرافقة غنائية لبعض الفنانين و عكاظيات شعرية بالدارجة التونسية ، قبل أن يُختتم الحفل بوصلة غنائية للفنان الصحبي شعير والشاعر و”قوّال” للأزهر شعير.
وبين الشعر والغناء أولى المهرجان في نسخته الأخيرة البعد السياحي أهمية كبری، حيث يزور ضيوف المهرجان من تونس وخارجها المغاور الجبلية والقرى البربرية الموزّعة على كامل جهات المحافظة الممتدة على مساحة جملية قدرها 39 ألف كيلومتر مربّع، من بينها: قرية شنني وقرية بني بركة وقرية الدويرات وبعض القصور الصحراوية منها قصر حدادة وقصر أولاد سلطان وقصر بني بلال.
القصور… تاريخ ضارب في القدم
لا تزال القصور الصحراوية، رغم مرور نحو ألف عام على بنائها، تشكّل إرثا تاريخيا وحضاريا مهما ورافدا ثقافيا يعيش خلال بداية ربيع كل عام فعاليات فنية ضمن المهرجان الدولي للقصور الصحراوية بتطاوين وعلى امتداد المحافظة الواقعة في أقصى جنوب البلاد، وذلك لإحياء هذا الموروث التاريخي والمعماري الذي يروي جوانب مهمة من تاريخ المنطقة.
وتقول ابتسام الصابري أمينة مال المجمع النسائي بالدويرات (قرية أمازيغية) “إذا كانت بعض المدن الساحلية التونسية، اكتسبت مقوماتها الحضارية ودعاماتها الاقتصادية والسياحية من وجودها على السواحل أو من امتداد سهولها الخصبة، فإن زائر مدينة تطاوين الواقعة أقصى الجنوب، لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام على القصور التي صمدت في الصحراء أكثر من تسعة قرون منذ تشييدها في أواسط القرن الحادي عشر الميلادي وحتى اليوم”.
وتتعدّد القصور في جهات الجنوب التونسي وخصوصا محافظتي مدنين وتطاوين، وهي التي تتوفّر على عشرات القصور القديمة ذات الهندسة المعمارية الضاربة في أعماق التاريخ والتي تأخذ من الصلابة والحصانة بطرف ومن الجمال والتناسق الهندسي بطرف آخر.
ويقول التاريخ أن البربر والأمازيغ كانوا أول من شيّد تلك القصور في العصور الوسطى، وتحديدا في منتصف القرن الخامس للهجرة أو الحادي عشر ميلادي.
يؤكّد الباحث في التاريخ والآثار في جهة الجنوب التونسي علي الثابتي أنه يمكن تقسيم القصور إلى ثلاثة أجيال، جيل أول وهو الأقدم والذي جاء فوق قمم الجبال وتميّز تصميم قصوره بأنه لا يخضع للأشكال الهندسية المستقيمة، وإنما راعى أشكال القمم التي بُنيت فوقها مع عدم وجود الساحات غالبا وإنما ممرات تفضي إلى الغرف.
فيما تمّ بعد ذلك تشييد قصور الجيل الثاني، وجاءت أكثر انتظاما بساحات مربعة ومستطيلة وبعدد من الطوابق يصل إلى خمسة طوابق ثم جاءت قصور الجيل الثالث في الفترة المعاصرة، وهي القصور التي تميّزت بساحات كبيرة وتتكوّن عادة من طابق أو طابقين.
وأول من شيّد القصور الصحراوية هم قبائل البربر الذين سكنوا تلك المناطق في جهتي تطاوين ومدنين في الجنوب التونسي، وكانت هذه القبائل: بنو سليم، والغديري، والدويري والحداد وغيرها شيّدت هذه القصور لخزن المحاصيل الزراعية والحفاظ عليها لأطول مدة ممكنة، كما كانت القصور أيضا ذات أغراض أمنية، حيث كانت بمثابة الحصون التي تحمي السكان من غزوات القبائل الأخرى.
ويقول الباحث في الجيولوجيبا الحبيب علجان أن القصور الصحراوية مثّلت رافدا مهما لتاريخ جهات الجنوب التونسي، وتحديدا تطاوين ومدنين، وهو إرث حضاري أسهم بشكل أو بآخر في أن يكون دعامة من دعائم السياحة الصحراوية في تونس.
والغرض الأساسيّ من تشييد القصور هو خزن المنتجات الزراعية من زيت أو قمح أو شعير، بما أن هناك طرقا خاصة للخزن تسمح بالحفاظ على سلامة تلك المواد لمدة تزيد أحيانا عن خمس سنوات، وفي الآن نفسه كانت القصور ملاذا للقبائل البربرية لصدّ غزوات العدو.
والقصر هو مجموعة من الغرف التي تمّ بناؤها من الحجر والجبس وأغصان الأشجار وسعف النخيل بما يجعلها متماسكة وصلبة، فضلا عن مواقعها الإستراتيجية التي جعلتها تصمد أمام الطبيعة حتى الآن.
وتحوّلت القصور عبر التاريخ من حصون للأمن والحماية ومراكز للخزن، إلى روافد هامة للسياحة، حيث يرتادها السياح من مختلف البلدان، كما أنها تُعدّ من المواقع الأثرية التاريخية التي تمّ تسجيلها في القائمة التمهيدية للتراث العالمي من قبل منظمة اليونسكو.
وتمتدّ القصور الصحراوية في محافظتي تطاوين ومدنين ويبلغ عددها ما يقارب 160 قصرا من بينها قصر الحدادة الذي يقع في مدينة غمراسن، وقصر أولاد دباب وقصر أولاد سلطان، وهو أحد أهم قصور الجنوب التونسي ويقع قرب مدينة تطاوين.
وينقسم قصر أولاد سلطان إلى ساحتين تُحيط بهما غرف مبنية على مستويات مختلفة ومساحات متفاوتة، أما قصر بني بركة، فهو قصر يقع على قمة جبل بني بركة شرق مدينة الرقبة من محافظة تطاوين.
كما يوجد قصر شنني الذي يقع في القرية البربرية شنني بالمحافظة، وعلى ارتفاع قدره 150 مترا تقريبا، فيما يختلف عدد الغرف من قصر إلى آخر، وعادة ما يقارب 200 أو 300 غرفة بحسب عدد الطوابق